كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال لهم: {أفطال عليكم العهد} أي: زمن لطف الله تعالى بكم، فتغيرتم عما فارقتكم عليه كما تغير أهل الرذائل والانحلال في العزائم لضعف العقول وقلة التدبر {أم أردتم} أي: بالنقض مع قرب العهد، وذكر الميثاق {أن يحل} أي يجب {عليكم} بسبب عبادة العجل {غضب من ربكم} المحسن إليكم، أي: وكلا الامرين لم يكن أما الأول فواضح، وأما الثاني: فلا يظن بأحد إرادته، والحاصل أنه يقول: فعلتم ما لا يفعله عاقل {فأخلفتم} أي: فتسبب عن فعلكم ذلك أن أخلفتم {موعدي} أي: وعدكم إياي بالثبات على الإيمان بالله، والقيام على ما أمركم به، ولما تشوق السامع إلى جوابهم استأنف ذكره، فقال: {قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا} أي: بأن ملكنا أمرنا إذ لو خلينا، وأمرنا ولم يسوِّل لنا السامري لما أخلفناه، واختلف في هذا المجيب على وجهين:
الأول: هم الذين لم يعبدوا العجل، فكأنهم قالوا: ما أخلفنا موعدك بملكنا أي: بأمر كنا نملكه، وقد يضيف الرجل فعل قرينه إلى نفسه كقوله تعالى: {وإذ فرقنا بكم البحر} البقرة، {وإذ قتلتم نفسًا} البقرة، وإن كان الفاعل لذلك آباءهم لا هم، فكأنهم قالوا: الشبهة قويت على عبدة العجل، فلم نقدر على منعهم عنه، ولم نقدر أيضًا على مفارقتهم لأنا خفنا أن يصير ذلك سببًا لوقوع النفرة، وزيادة الفتنة.
الثاني: أن هذا قول عبدة العجل، والمراد أن غيرنا أوقع الشبهة في قلوبنا، وفاعل السبب فاعل المسبب، فمخلف الوعد هو الذي أوقع الشبهة، فإنه كان كالمالك لنا فإن قيل: كيف كان رجوع قريب من ستمائة ألف إنسان من العقلاء المكلفين عن الدين الحق دفعة واحدة إلى عبادة عجل يعرف فسادها بالضرورة؟
أجيب: بأنَّ هذا غير ممتنع في حق البله من الناس وقرأ عاصم ونافع بفتح الميم، وحمزة والكسائي بضمها، والباقون بكسرها، وثلاثتها في الأصل لغات في مصدر ملكت الشيء، ثم إن القوم فسروا الضرر الحامل لهم على ذلك الفعل، فقالوا: {ولكنا حملنا} قرأ نافع وابن كثير وابن عامر وحفص بضم الحاء وكسر الميم مشددة، وأبو عمرو، وشعبة وحمزة والكسائي بفتح الحاء والميم مخففة {أوزارًا} أي: أثقالًا {من زينة القوم} أي: حلي قوم فرعون استعارها منهم بنو إسرائيل بسبب عرس، وقيل: استعاروها لعيد كان لهم، ثم لم يردوها عند الخروج مخافة أن يعلموا به، وقيل: هي ما ألقاه البحر على الساحل بعد إغراقهم، فأخذوه، قال البيضاوي: ولعلهم سموها أوزارًا لأنها آثام فإن الغنائم لم تكن تحل بعد، ولأنهم كانوا مستأمنين، وليس للمستأمن أن يأخذ من مال الحربي {فقذفناها} أي: في النار {فكذلك ألقى السامري} أي: ما كان معه إما من المال أو من أثر الرسول، روي أن موسى عليه السلام لما وعده ربه أن يكلمه استخلف على قومه أخاه هارون، وأجلهم ثلاثين يومًا، وذهب فصامها ليلها ونهارها، ثم كره أن يكلم ربه، وريح فمه متغير، فمضغ شيئًا من نبات الأرض، فقال له ربه: أوما علمت أن ريح الصائم أطيب من ريح المسك، ارجع فصم عشرًا، وقيل: إنهم أقاموا بعد مفارقته عشرين ليلة، وحسبوها أربعين بأيامها، وقالوا: قد كملت العدة، فلما رأى قوم موسى أنه لم يرجع إليهم ساءهم ذلك، وكان هارون قد خطبهم وقال: إنكم خرجتم من مصر، ولقوم فرعون عندكم عوار، فاحفروا حفرة وألقوها فيها، ثم أوقدوا عليها نارًا، فلا يكون لنا ولا لهم، وكان السامري قد رأى أثرًا، فقبض منه قبضة، فمر بهارون فقال له: يا سامري ألا تلقي ما في يدك، فقال: هذه قبضة من أثر الرسول الذي جاوز بكم البحر، ولا ألقيها على شيء إلا أن تدعوا الله إذا ألقيتها أن يكون ما أريد، فألقاها ودعا له هارون فقال: أريد أن يكون عجلًا، فاجتمع ما في الحفرة وصار عجلًا، فهذا معنى قوله تعالى: {فأخرج لهم عجلًا جسدًا} من ذلك الحلي المذاب به جوف ليس فيه روح {له خوار} أي: صوت يسمع؛ قال ابن عباس: لا والله ما كان له صوت قط، وإنما كان الريح يدخل في دبره، فيخرج من فيه، فكان ذلك الصوت من ذلك، وقيل: إنه صاغه، ووضع التراب بعد صوغه في فمه {فقالوا}: أي السامري: ومن افتتن به أول ما رأوه مشيرين إلى العجل {هذا إلهكم وإله موسى فنسي} أي: فنسيه موسى، وذهب يطلبه عند الطور، أو فنسي السامري، أي: ترك ما كان عليه من الإيمان.
{أفلا يرون} أي: قالوا ذلك فتسبب عن قولهم علمهم عن روية {أن} أي: أنه {لا يرجع إليهم قولًا} والإله لا يكون أبكم {ولا يملك لهم ضرًا} فيخافوه كما كانوا يخافون فرعون، فيقولون ذلك خوفًا من ضرره {ولا نفعًا} فيقولون ذلك رجاءً له.
{ولقد قال لهم هارون من قبل} أي: قبل رجوع موسى مستعطفًا لهم {يا قوم إنما فتنتم} أي: وقع اختياركم فاختبرتم في صحة إيمانكم وصدقكم فيه، وثباتكم عليه {به} أي: بهذا العجل في إخراجه لكم على هذه الهيئة الخارقة للعادة، وأكد لأجل إنكارهم، فقال: {وإن ربكم} أي: الذي أخرجكم من العدم، ورباكم بالإحسان {الرحمن} وحده الذي فضله عامّ ونعمه شاملة، فليس على بر ولا فاجر نعمة إلا وهي منه تعالى قبل أن يوجد العجل، وهو كذلك بعده، ومن رحمته قبول التوبة، فخافوا نزع نعمه بمعصيته، وأرجوا إسباغها بطاعته {فاتبعوني} بغاية جهدكم في الرجوع إليه {وأطيعوا أمري} أي: في الثبات على الدين.
{قالوا لن نبرح عليه} أي: العجل {عاكفين} أي: مقيمين {حتى يرجع إلينا موسى} فدافعهم فهموا به، وكان معظمهم قد ضل فلم يكن معه من يقوى بهم، فخاف أن يجاهد بهم الكفار، فلا يفيد ذلك شيئًا مع أن موسى لم يأمره بجهاد من ضل، وإنما قال له: {وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين}، فرأى من الإصلاح اعتزالهم إلى أن يأتي.
تنبيه:
إنما قال هارون ذلك شفقة على نفسه وعلى الخلق؛ أما شفقته على نفسه، فلأنه كان مأمورًا من عند الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان مأمورًا من عند أخيه بقوله: {اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين} الأعراف، فلو لم يشتغل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكان مخالفًا لأمر الله تعالى، ولأمر موسى، وذلك لا يجوز. أوحى الله تعالى إلى يوشع بن نون أني مهلك من قومك أربعين ألفًا من خيارهم، ومائتي ألف من شرارهم، فقال: يا رب هؤلاء الأشرار فما بال الأخيار؟ قال: إنهم لم يغضبوا لغضبي، وقال أنس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أصبح وهمه غير الله فليس من الله في شيء، ومن أصبح لا يهتم بالمسلمين، فليس منهم» وعن النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم «مثل المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد» وعن عبد الله بن أبي أوفى قال: خرجت أريد النبي صلى الله عليه وسلم فإذا أبو بكر وعمر عنده، فجاء صغير يبكي، فقال لعمر: «ضم الصبي إليك، فإنه ضال» فأخذه عمر، وإذا أم الصبي تولول كاشفة عن رأسها جزعًا على ابنها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم أدرك المرأة، فنادها، فجاءت، وأخذت ولدها، وجعلت تبكي والصبي في حجرها، فالتفتت، فرأت النبي صلى الله عليه وسلم فاستحيت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك: «أترون هذه رحيمة بولدها؟ قالوا: يا رسول الله كفى بهذه رحمة، فقال: والذي نفسي بيده إن الله أرحم بالمؤمنين من هذه بولدها» ولقد سلك هارون في موعظته أحسن الوجوه؛ لأنه زجرهم عن الباطل أولًا بقوله: إنما فتنتم به، ثم دعاهم إلى معرفة الله ثانيًا بقوله: وإن ربكم الرحمن، ثم دعاهم ثالثًا إلى النبوة بقوله: فاتبعوني، ثم دعاهم رابعًا بقوله: وأطيعوا أمري، وهذا هو الترتيب الجيد؛ لأنه لابد قبل كل شيء من إماطة الأذى عن الطريق، وهو إزالة الشبهات، ثم معرفة الله تعالى، فإنها هي الأصل، ثم النبوة، ثم الشريعة، فثبت أن هذا الترتيب أحسن الوجوه؛ لأنه زجرهم عن الباطل أولًا، ولما ذكر الله تعالى ما قال هارون تشوقت النفس إلى علم ما قال موسى فقيل: {قال يا هارون} أنت نبي الله، وأخي ووزيري وخليفتي، فأنت أولى الناس بأن ألومه، وأحقهم بأن أعاتبه {ما منعك إذ} أي: حين {رأيتهم ضلوا} عن طريق الهدى واتبعوا سبيل الردى.
{أن لا تتبعني} في سيرتي من الأخذ على يد الظالم طوعًا أو كرهًا.
تنبيه:
لا مزيدة للتأكيد؛ لأن النافي إذا زيد في كلام كان نافيًا لضد مضمونه فيفيد إثباتًا للمضمون ونفيًا لضده، فيكون ذلك في غاية التأكيد، وأثبت الياء بعد النون ابن كثير وقفًا ووصلًا، وأثبتها نافع، وأبو عمرو وصلًا لا وقفًا، وحذفها الباقون وصلًا ووقفًا {أفعصيت} أي: فتكبرت عن اتباعي، فتسبب عن ذلك أنك عصيت {أمري} وأخذ بلحيته وبرأسه يجره إليه غضبًا لله تعالى، فكأنه قيل: ما قال له؟ فقال: {قال} مجيبًا له مستعطفًا بذكر أول وطن ضمهما بعد نفخ الروح مع ما له من الرقة والشفقة {يا ابن أمّ} فذكره بها خاصة وإن كان شقيقه؛ لأنها يسوءها ما يسوءه، وهي أرق من الأب، وقرأ نافع وابن كثير، وأبو عمرو وحفص بفتح الميم، وكسرها ابن عامر وشعبة وحمزة والكسائي {لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي} أي: بشعرهما. ثم علل ذلك بقوله: {إني خشيت أن تقول} إذا شددت عليهم حتى يصل الأمر إلى القتال {فرقت بين بني إسرائيل} يفعلك هذا الذي لم يجسد شيئًا لقلة من كان معك وضعفك عن ردهم {ولم ترقب قولي} {اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين} الأعراف، ولم تقل: وارددهم، ولو أدى الأمر إلى السيف، ولما فرغ من نصيحة أقرب الناس إليه، وأحقهم بنصيحته وحفظه على الهدى إذ كان رأس الهداة تشوف السامع إلى ما كان من غيره، فاستأنف تعالى ذكره بقوله: {قال} أي موسى عليه السلام لرأس أهل الضلال معرضًا عن أخيه بعد قبول عذره جاعلًا ما نسب إليه سببًا لسؤاله عن الحامل له عليه {فما خطبك}؟ أي: أمرك هذا العجب العظيم الذي حملك على ما صنعت، وأخبرني ربي أنك أضللتهم به {يا سامري}. {قال} السامري: مجيبًا له {بصرت} من البصر والبصيرة {بما لم يبصروا به} أي: رأيت ما لم ير بنو إسرائيل، وعرفت ما لم يعرفوا، وقال ابن عباس: علمت ما لم يعلموا، ومنه قولهم: رجل بصير، أي: عالم قاله أبو عبيدة وأراد أنه رأى جبريل عليه السلام، فأخذ من موضع حافر دابته قبضة من تراب كما قال: {فقبضت} أي: فكان ذلك سببًا؛ لأن قبضت {قبضة} أي: مرة من القبض أطلقها على المقبوض تشبيهًا للمفعول بالمصدر {من أثر} فرس ذلك {الرسول} أي: المعهود {فنبذتها} أي: في الحلي الملقى في النار، أو في العجل {وكذلك} أي: وكما سولت لي نفسي أخذ أثره {سوَّلت} أي: حسنت وزينت {لي نفسي} نبذها في الحلي، فنبذتها، وكان منها ما كان، ولم يدعني إلى ذلك داع، ولا حملني عليه حامل غير التسويل.
تنبيه:
كون المراد بالرسول جبريل عليه السلام هو ما عليه عامة المفسرين، وأراد بأثره التراب الذي أخذه من موضع حافر دابته لما رآه يوم فلق البحر، وعن علي رضي الله تعالى عنه أن جبريل عليه السلام لما نزل ليذهب بموسى إلى الطور أبصره السامري من بين الناس، واختلفوا في أنه كيف اختص السامري برؤية جبريل عليه السلام ومعرفته من بين الناس، فقال ابن عباس في رواية الكلبي: إنما عرفه لأنه رباه في صغره، وحفظه من القتل حين أمر فرعون بذبح أولاد بني إسرائيل، فكانت المرأة إذا ولدت طرحت ولدها حيث لا يشعر به آل فرعون، فتأخذ الملائكة الولدان ويربونهم حتى يترعرعوا ويختلطوا بالناس، فكان السامري ممن أخذه جبريل عليه السلام، وجعل كف نفسه في فيه، وارتضع منه العسل واللبن، فلم يزل يختلف إليه حتى عرفه، فلما رآه عرفه؛ قال ابن جريح: فعلى هذا قوله: بصرت بما لم يبصروا به يعني: رأيت ما لم يروه.
ومن فسر الإبصار بالعلم، فهو صحيح، ويكون المعنى: علمت أن تراب فرس جبريل عليه السلام له خاصية الإحياء؛ قال أبو مسلم ليس في القرآن تصريح بهذا الذي ذكره المفسرون، فههنا وجه آخر، وهو أن يكون المراد بالرسول موسى عليه السلام وبأثره سنته ورسمه الذي أمر به، فقد يقول الرجل: إن فلانًا يقفوا أثر فلان، ويقتص أثره إذا كان يمتثل رسمه، والتقدير أن موسى عليه السلام لما أقبل على السامري باللوم، والمسألة عن الأمر الذي دعاه إلى إضلال القوم في العجل، قال: بصرت بما لم يبصروا به؛ أي: عرفت أن الذي أنت عليه ليس بحق، وقد كنت قبضت قبضة من أثرك أيها الرسول؛ أي: شيئًا من دينك، فقذفته؛ أي: طرحته، فعند ذلك أعلمه موسى عليه السلام بما له من العذاب في الدنيا والآخرة، وإنما أورد لفظ الإخبار عن غائب كما يقول الرجل لرئيسه وهو مواجه له ما يقول الأمير في كذا، أو بماذا يأمر الأمير، وأما ادعاؤه أن موسى رسول مع جحده وكفره.
فعلى مذهب من حكى الله فيه قوله: يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون، وإن لم يؤمنوا بالإنزال قال الرازي: وهذا القول الذي ذكره أبو مسلم ليس فيه إلا أنه مخالف للمفسرين، ولكنه أقرب إلى التحقيق لوجوه:
أحدها: أنَّ جبريل عليه السلام ليس معهود باسم الرسول، ولم يجرِ له فيما تقدم ذكر حتى تجعل لام التعريف إشارة إليه، فإطلاق لفظ الرسول لإرادة جبريل كأنه تكليف بعلم الغيب.
وثانيها: أنه لابد فيه من الإضمار، وهو قبضة من أثر حافر دابة الرسول، والإضمار خلاف الأصل.
وثالثها: أنه لابد من التعسف في بيان أن السامري كيف اختص من بين جميع الناس برؤية جبريل ومعرفته، وكيف عرف أن تراب حافر فرسه له هذا الأثر، والذي ذكروه من أن جبريل هو الذي رباه فبعيد؛ لأن السامري إن عرف أنه جبريل حال كمال عقله عرف قطعًا أن موسى نبّي صادق، فكيف يحاول الإضلال، وإن كان ما عرفه حال البلوغ، فأنى ينفعه كون جبريل مر بباله حال الطفولية في حصول تلك المعرفة، ثم إن موسى عليه السلام لما سمع من السامري ما ذكر {قال} له {فاذهب} أي: فتسبب عن فعلك أن أقول لك: اذهب من بيننا، وحيث ذهبت {فإن لك في الحياة} أي: ما دمت حيًا {أن تقول} لكل من رأيته {لا مساس} أي: لا تمسني ولا أمسك، فلا تقدر أن تنفك عن ذلك، فكان يهيم في البرية مع الوحوش والسباع، وإذا مس أحدًا أو مسه أحد حما جميعًا عاقبه الله تعالى بذلك، وكان إذا لقي أحدًا يقول لا مساس؛ أي: لا تقربني ولا تمسني، وقال ابن عباس لا مساس لك ولولدك حتى أن بقاياهم اليوم يقولون ذلك، وإذا مس أحد من غيرهم أحدًا منهم حما جميعًا في ذلك الوقت {وإن لك} بعد الممات {موعدًا} للثواب إن تبت، والعقاب إن أبيت {لن تخلقه} قرأ ابن كثير وأبو عمرو بكسر اللام أي: لن تغيب عنه، والباقون بفتحها أي: بل تبعث إليه، فلا انفكاك لك عنه كما أنك في الحياة لا تقدر أن تنفك عن النفرة من الناس، فاختر لنفسك ما يحلو. ولما ذكر ما للإله الحق من القدرة التامة في الدارين أتبعه عجز العجل، فقال: {وانظر إلى إلهك} أي: بزعمك {الذي ظلت} أي: دمت في مدة يسيرة جدًا بما أشار إليه تخفيف التضعيف، فإن أصله ظللت بلامين أولاهما مكسورة حذفت تخفيفًا {عليه عاكفًا} أي: مقيمًا تعبده {لنحرّقنّه} أي: بالنار وبالمبرد.
قال البقاعي: كما سلف عن نص التوراة، وكان معنى ذلك أنه أحماه حتى لان، فهان على المبارد انتهى، {ثم لننسفنه} أي: لنذرينه إذا صار سحالة {في اليمّ} أي: في البحر الذي أغرق الله تعالى فيه آل فرعون، ثم يجمع الله تعالى سحالته التي هي من حليهم، فيحميها في نار جهنم، ويكويهم بها، ويجعلها من أشد العذاب عليهم، وأكد الفعل إظهارًا لعظمة الله تعالى الذي أمره بذلك، وتحقيقًا للصدق في الوعد، فقال: {نسفًا} قال الجلال المحلي، وفعل موسى عليه السلام بعد ذبحه ما ذكره انتهى، وعلى هذا لا يصح أن يبرد بالمبرد؛ قال الرازي: ويمكن أن يقال صار لحمًا ودمًا، وذبح ثم بردت عظامه بالمبرد حتى صارت بحيث يمكن نسفها، ولما أراهم بطلان ما هم عليه بالعيان أخبرهم بالحق على وجه الحصر، فقال: {إنما إلهكم الله} أي: الجامع لصفات الكمال، ثم كشف المراد من ذلك، وحققه بقوله: {الذي لا إله إلا هو} أي: لا يصلح لهذا المنصب أحد غيره؛ لأنه {وسع كل شيء} وقوله: {علمًا} تمييز محمول على الفاعل، أي: أحاط علمه بكل شيء، فكل شيء إليه مفتقر، وهو غني عن كل شيء، وأما العجل الذي عبدوه، فلا يصلح للإلهية بوجه، ولا في عبادته شيء من حق، ولما شرح الله تعالى قصة موسى عليه السلام مع فرعون أولًا، ثم مع السامري ثانيًا على هذا الأسلوب الأعظم والسبيل الأقوم كان كأنه قيل: هل يعاد شيء من القصص على هذا الأسلوب البديع، والمثال الرفيع، فقيل: نعم {كذلك} أي: مثل هذا القص العالي في هذا النظم العزيز الغالي كقصة موسى ومن ذكر معه {نقص عليك من أنباء} أي: أخبار {ما قد سبق} من الأمم زيادة في علمك وإجلالًا لمقدارك، وتسلية لقلبك، وإذهابًا لحزنك بما اتفق للرسل من قبلك، وتكثيرًا لبيناتك، وزيادة في معجزاتك، وليعتبر السامع ويزداد المستبصر في دينه بصيرة، وتتأكد الحجة على من عاند وكابر {وقد أتيناك} أي: أعطيناك تشريفًا لك وتعظيمًا لقدرك {من لدنا} أي: من عندنا {ذكرًا} أي: كتابًا هو القرآن وفي تسمية القرآن بالذكر وجوه أحدها: أنه كتاب فيه ذكر ما يحتاج إليه الناس من أمر دينهم ودنياهم، وثانيها: أنه يذكر فيه أنواع آلاء الله ونعمائه، وفيه التذكير والموعظة، وثالثها: فيه الذكر والشرف لك ولقومك كما قال الله تعالى: وإنه لذكر لك ولقومك، وسمى الله تعالى كل كتاب أنزله ذكرًا فقال: {فاسألوا أهل الذكر}، والتنتكير فيه للتعظيم، فإنه مشتمل على أسرار كتب الله تعالى المنزلة.